إرشاد القلوب : بحذف الأسانيد أيضا.. مرفوعا إلى ابن عبَاس، قال :
قدم يهوديَان أخوان من رؤوس اليهود،, فقالا : يا قوم!.. إن نبيَنا حدثنا أنَه يظهر بتهامة رجل يسفه أحلام اليهود، ويطعن في دينهم، ونحن نخاف منه أن يزيلنا عمَا كانت عليه آباؤنا، فأيكم هذا النبي؟.. فإن كان المبشر به داود آمنا به واتبعناه، وإن كان يورد الكلام على إبلاغه ويورد الشعر ويقهرنا، جاهدناه بأنفسنا وأموالنا.. فأيكم هذا النبي؟ فقال المهاجرون والأنصار : إن نبينا قبض.
فقالا : الحمد لله، فأيكم وصيَه؟.. فما بعث الله نبيَا إلى قوم إلا وله وصي، يؤدي من بعده ويحكم ما أمر به ربَه.. فأومأ المهاجرون والأنصار إلى أبي بكر. فقالوا : هذا وصيَه. فقالا لأبي بكر : إنا نلقي عليك من المسائل ما يلقى على الأوصياء، ونسألك عمَا يسأل الأوصياء عنه، فقال أبو بكر : ألقيا، سأخبركم عنه إن شاء الله تعالى.
فقال له أحدهما : ما أنا وأنت عند الله؟.. وما نفس ليس بينهما رحم ولا قرابة؟.. وما قبر سار بصاحبه؟.. ومن أين تطلع الشمس وأين تغرب؟.. وأين سقطت الشمس ولم تسقط مرة أخرى في ذلك الموضع؟.. وأين تكون الجنة؟.. وأين تكون النار؟.. وربك يحمل أو ’ يحمل؟.. وأين يكون وجه ربك؟.. وما اثنان شاهدان؟.. وما اثنان غائبان؟.. وما اثنان متباغضان؟.. وما الواحد؟.. وما الاثنان؟.. وما الثلاثة؟.. وما الأربعة؟.. وما الخمسة؟.. وما الستة؟.. وما السبعة؟.. وما الثمانية؟.. وما التسعة؟.. وما العشرة؟.. وما الإحدى عشر؟.. وما الأثنى عشر؟.. وما العشرون؟.. وما الثلاثون؟.. وما الأربعون؟.. وما الخمسون؟.. وما الستون؟.. وما السبعون؟.. وما الثمانون؟.. وما التسعون؟.. وما المائة؟!..
قال ابن عباس فبقي أبو بكر يفكر لا يرد ُ جوابا، وتخوفنا أن يرتد القوم عن الإسلام.. فأتيت منزل علي بن أبي طالب (علي السلام) فقلت له : يا علي!.. إن رؤساء اليهود قد قدموا المدينة، وألقوا على أبي بكر مسائل، وقد بقي لا يرد جوابا.
فتبسم علي (عليه السلام) ضاحكا، ثم قال : هو الذي وعدني به رسول الله (صلى الله عليه وآله). وأخذ يمشي أمامي فما أخطأت مشيته أمامي مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى قعد في الموضع الذي يقعد فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم التفت إلى اليهوديين.
فقال : يا يهوديان!.. ادنوا مني، وألقيا عليَ ما ألقيتما على الشيخ.
فقالا : من أنت؟..
فقال : أنا علي بن أبي طالب، أخو النبي، وزوج فاطمة، وأبو الحسن والحسين، ووصيه في خلافته كلها، وصاحب كل نفيسة وغزاة، وموضع سر النبي (صلى الله عليه وآله).
فقال اليهودي : ما أنا وأنت عند الله؟..
قال : أنا مؤمن منذ عرفت نفسي، وأنت كافر منذ عرفت نفسك.. وما أدري ما يحدث الله بك يا يهودي بعد ذلك؟..
قال اليهودي : فما نفس ليس بينهما رحم ولا قرابة؟..
قال : يونس بن متَى في بطن الحوت.
قال : فما قبر سار بصاحبه؟..
قال : يونس حين طاف به الحوت في سبعة أبحر.
قال له : فالشمس من أين تطلع؟..
قال : من قرن الشيطان!..
قال : فأين تغرب؟..
قال : في عين حمئة، وقال لي حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا تصلِ في إقبالها ولا في إدبارها حتى تصير في مقدار رمح أو رمحين.
قال : فأين سقطت الشمس ولم تسقط مرة أخرى في ذلك الموضع؟..
قال : البحر حين فرَقه الله تعالى لقوم موسى (عليه السلام).
قال له : ربك يحمل أو ’ يحمل؟..
قال : ربي يحمل كل شيء ولا يحمله شيء.
قال : فكيف قوله : (ويحمل عرش ربِك فوقهم يومئذ ثمانية).. سورة الحاقة الآية 17 -
قال : يا يهودي!.. ألم تعلم أن الله له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وكل شيء على الثرى، والثرى على القدرة، والقدرة عند ربي.
قال : فأين تكون الجنة؟.. وأين تكون النار؟..
قال : الجنة في السماء، والنار في الأرض.
قال : فأين وجه ربك؟..
فقال علي (عليه السلام) لابن عباس : ائتني بنار وحطب فأضرمها، وقال : يا يهودي!.. فأين وجه هذه النار؟..
فقال : لا أقف لها من وجه.
قال : كذلك ربي (فأين ما تولوا فثم وجه الله) سورة البقرة الآية 115 -.
قال : فما اثنان شاهدان؟..
قال : السماء والأرض لا يغيبان.
قال : فما اثنان غائبان؟..
قال : الموت والحياة لا نقف عليهما.
قال : فما اثنان متباغضان؟..
قال : الليل والنهار.
قال : فما نصف الشيء؟..
قال : المؤمن.
قال : فما لا شيء؟..
قال : يهودي مثلك كافر لا يعرف ربَه.
قال : فما الواحد؟..
قال : الله عز وجل.
قال : فما الإثنان؟..
قال : آدم وحواء.
قال : فما الثلاثة؟..
قال : كذبت النصارى على الله عز وجل، قالوا عيسى بن مريم ابن الله, والله لم يتخذ صاحبة ولا ولدا.
قال : فما الأربعة؟..
قال : التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم.
قال : فما الخمسة؟..
قال : خمس صلوات مفروضات.
قال : فما الستة؟..
قال : خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش.
قال : فما السبعة؟..
قال : سبعة أبواب الناس متطابقات.
قال : فما الثمانية؟..
قال : ثمانية أبواب الجنة.
قال : فما التسعة؟..
قال : (تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون) سورة النمل 48 -.
قال : فما العشرة؟..
قال : عشرة أيام من العشر.
قال : فما الإحدى عشر؟..
قال : قول يوسف لأبيه إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رايتهم لي ساجدين) سورة يوسف4 -.
قال : فما الإثنا عشر؟..
قال : شهور السنة.
قال : فما العشرون؟..
قال : بيع يوسف بعشرين درهما.
قال : فما الثلاثون؟..
قال : ثلاثون ليلة من شهر رمضان، صيامه واجب على كل مؤمن، إلا من كان مريضا أو على سفر.
قال : فما الأربعون؟..
قال : كان ميقات موسى ثلاثين ليلة قضاها، والعشر كانت تمامها.
قال : فما الخمسون؟..
قال : دعا نوح قومه ألف سنة إلا خمسين عاما.
قال : فما الستون؟..
قال : قال الله تعالى : (فإطعام ستين مسكينا) أو (صيام شهرين متتابعين) سورة المجادلة 4.
قال : فما السبعون؟..
قال : اختار موسى سبعين رجلا لميقات ربه.
قال : فما الثمانون؟..
قال : قرية بالجزيرة يقال لها ثمانون، منها قعد نوح في السفينة، واستوت على الجوديَ وأغرق الله القوم.
قال : فما التسعون؟..
قال : الفلك المشحون اتخذ يوما فيها بيت للبهائم.
قال : فما المائة؟..
قال : كانت لداود (عليه السلام) ستون سنة فوهب له آدم أربعين، فلما حضر آدم (عليه السلام) الوفاة جحده، فجحد ذريته.
فقال : يا شاب!.. صف لي محمدا (صلى الله عليه وآله) كأني أنظر إليه حتى أؤمن به الساعة!..
فبكى علي (عليه السلام) ثم قال : يا يهودي!.. هيجت أحزاني، كان حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلت الجبين، مقرون الحاجبين، أدعج العينين، سهل الخدين، أقنى الأنف، دقيق السرية، كث اللحية، براق الثنايا، كأن عنقه إبريق فضة، كان له شعرات من لبَته إلى سرته متفرقة كأنها قضيب كافور، لم يكن بالطويل الذاهب ولا القصير النزر، كان إذا مشى مع الناس غمرهم، كان إذا مشى كأنه ينقلع من صخرة أو ينحدر من صبب، كان مبدول الكعبين، لطيف القدمين، دقيق الخصر، عمامته السحاب، سيفه ذو الفقار، بلغته الدلدل، حماره اليعفور، ناقته العضباء، فرسه المبدول، قضيبه الممشوق.. كان أشفق الناس على الناس، وأرأف الناس بالناس، كان بين كتفيه خاتم النبوة مكتوب على الخاتم سطران : أول سطر : لا إله إلا الله، والثاني : محمد رسول الله.. هذه صفته يا يهودي.
فقال اليهوديان : نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأنك وصي محمد حقا.
وأسلما وحسن إسلامهما، ولزما أمير المؤمنين (عليه السلام) فكانا معه حتى كان في أمر الجمل ما كان،, فخرجا معه إلى البصرة، فقتل أحدهما في وقعت الجمل، وبقي الآخر حتى خرج معه إلى صفين فقتل.
المصدر : البحار ج 30 ص 86.